في زمن الجاهلية، كان نزار بن معد سيدًا عظيمًا من سادات العرب، يمتلك ثروات هائلة من الذهب والفضة والضياع والإبل والغنم. وكان له أربعة أبناء هم: مضر، وربيعة، وإياد، وأنمار، وقد كون كل واحد من هؤلاء الابناء فيما بعد قبيلة عربية سميت باسمه فصارت هناك قبيلة نضر وقبيلة ربيعة وقبيلة اياد وقبيلة أنمار، حيث أصبح كل منهم جدًّا لقبيلة عربية مشهورة في الجزيرة العربية.
ذات يوم مرض نزار مرضا شديدا شعر بدنو أجله، فجمع ابناءه الأربعة وقال لهم لقد جمعتكم اليوم يا ابنائي لاوصيكم وصيتي الاخيرة فقد انقضى عمري وقرب اجلي فاطرق الابناء رؤوسعه في تاثر، وقال اكبرهم مضر اطال الله بقائك ومد لنا في عمرك يا ابتي ،فقال الوالد اسمعوني جيدا ولا تقاطعوني حتى اتم كلامي فأنا لا ادري هل اتحدث إليكم بعد الان .
ووصّاهم بألا يختلفوا بعد رحيله، ثم وزّع عليهم أملاكه بطريقة غامضة بعض الشيء: فقال وأول ما اوصيكم به هو ان تتحبوا ولا تختلفوا من بعدي حتى لا يدب الشقاق بينكم فتصيروا اعداء بعد ان كنتم اخوة متحابين فقال الاخوة الأربعة في نفس واحد اطمئن يا ابانا فواصل الاب حديثه قائلا: اذا مت فهذه القبه الحمراء اي الخيمة وكل ما يشبهها من أموال تصير لاخيكم مضر فسكت مضر وقال الأخوة الثلاثة قد علمنا يا ابانا، فواصل الاب حديثه قائلا وهذه الخباء اي البيت من الشعر الاسود وكل ما يشبهه من الاموال ياخذها ربيعة فسكت ربيعه وقال الاخوة الثلاثة هي له يا ابانا، وواصل الأب حديثه قائلا : وهذه الخادم الشمطاء التي يختلط بياض شعرها بسواده وما يشبهها من الاموال لاخيكم إياد فوافقه الابناء، وختم الأب وصيته قائلا: أما هذه البدرة اي كيس النقود ويحوي 100 الف درهم بما فيها من دراهم وهذا المجلس الذي نحن فيه وما شابهه من اموال فهي لاخيكم أنمار، فقال الأخوة جميعا قد وصيتك وسننفذ يا ابتي فقال الوالد اذا غاب عنكم فهم شيء او اختلفتم في شيء من امر قسمة الاموال بينكم فتوجهوا الى الأفعى الجرهمي في نجران ليحكم بينكم فهو حكيم العرب وملكهم وسيفهم قصدي ويوضح لكم ما غاب عنكم فهمه .
وفاة الأب :
بعد أيام توفي الاب فحزن الابناء جميعا لرحيله وبعد انقضاء ايام الفراق اجتمعوا مع بعضهم لينفذوا وصية أبيهم، ويقسم الاموال بينهم كما وصاهم وبرغم أن وصية الاب كانت واضحة كالشمس وبرغم ان كلا من الاخوة الأربعة كان يحفظ ما وصى له به أبوه إلا أنهم اختلفوا بسبب عجزهم عن تحديد الأموال التي تشبه القبة الحمراء وتمييزها عن تلك التي تشبه الخباء الاسود أو الجارية الشمطاء وتذكر الاخوة وصية أبيهم ان يذهبوا إلى الأفعى الجرهمي في نجران ليحكم بينهم ويوضح لهم ما اختلفوا فيه فقرروا الذهاب اليه ليحكم بينهم.
رحلة الاخوة الأربعة إلى نجران
سار الأخوة في طريق وسط الصحراء ينبت العشب على جانبيه فنظر مضر الى العشب وقال لقد مر في هذا الطريق بعير أعور بالعين اليسرى وقال ربيعة وكان ذلك البعير متعبا ويعرج بساقه اليمنى وقال إياد وكان ذلك البعير ابتر اي مقطوع الذيل وقال أنمار وكان يحمل عسلا.
وواصل الاخوة سيرهم في الطريق وبعد مسافه قصيرة قابلهم اعرابي وهو يجري متقطع الأنفاس والحزن واضح على وجهه فسالهم قائلا : ألم تروا في طريقكم بعيرا فقال مضر هل بعيرك أعور بالعين اليسرى فاطمان الاعرابي وقال نعم فقال ربيعة هل سار بعيرك مسافه طويلة ويعرج بساقه اليمنى فقال الاعرابي نعم هو بعينه، فقال إياد هل كان بعيرك مقطوع الذيل فقال الاعرابي نعم إنكم تصفون بعيري فقال أنمار وكان يحمد عسلا فقال الاعرابي هو بعيري دلوني عليه اين هو.
فقال الاخوة ان لم نرى بعيرك فكيف ندلك عليه فغضب الاعرابي غضبا شديدا وقال لهم ايها اللصوص كيف تصفون بعيري بتلك الاوصاف الدقيقة وتزعمون انكم لم تروه لقد سرقتم بعيري ولا بد ان تعيدو الي حالا، وحاول الاخوة الاربعة أن يفهم الاعرابي السائر أنهم لم يروا بعيره لكنه كان مصرا على انهم اللصوص الذين سرقوه واخفاه في مكان ما.
واخيرا قال لهم اذا لم تظهروا لي بعيري ذهبت بكم الى الافع الجرهمي وشكوت اليه فضحك الاخوه وقالوا له انهم كانوا فعلا ذاهبين الى الافع الجرمي ليحكم بينهم في وصية ابيهم الراحل وساروا جميعا حتى وصلوا الى نجران.
الذكاء والفراسة
عندما وصلوا إليه،استقبلهم في داره الفاخرة ولم يطق الاعرابي صبرا فقال شاكيا اياهم هؤلاء اللصوص سرقوا بعيري ولا يريدون اعادته لي فانكر الاخوه ان يكونوا رأوا بعيره، وقال الاعرابي كيف لم تسرقو وقد وصفتم وصفا دقيقا يعجز عنه من لم يره من قبل، فتعجب الافعى الجرهمي قائلا عجبا لكم كيف تصفون بعيرا لم تروه؟ فقال مضر لقد رأيت العشب مرعيا من أحد جانبي الطريق ومتروك من الجانب الاخر فعرفت ان البعير أعور لانه لو لم يكن أعور لاكل من الجانبين فقال الاعرابي وكيف علمت انه أعور بالعين اليسرى فقال مضر ان العشب كان مرعيا من الجانب الايمن بالنسبة لاتجاه سير البعير وقال ربيعة وأنا علمت ان البعير متعب من أثر سيقانه على الارض فالحيوان يجرجر سيقانه ويترك اثارا طويلة مطموسة وليست واضحه المعالم، وقال إياد وانا علمت أنه أبتر مقطوع الذيل من اسر روته الذي كان متجمع في مكان واحد فلو كان سليم الذيل لحركة وتفرق الروث، وقال أنمار أما أنا فقد علمت أن الجمل كان يحمل عسلا من اسراب الذباب التي كانت تطير فوق الطريق.
فاعجب الافعى لفراسة الاخوة الاربعة وحسن ذكائهم وفطنتهم وقال للاعرابي كما سمعت يا اخا العرب لقد اعتمدوا على فراست في وصف بعيرك دون أن يروه اذهب وابحث عنه يا رجل ولا تتهم الابرياء، فاعتذر الاعرابي وانصرف مغادرا المجلس.
حكمة الأفعى الجرهمي
بعد خروج الأعرابي بدأ الاخوة الأربعة يشرحون للافعى الجرهمي وصية أبيهم وكيف اختلفوا في تقسيم الاموال فيما بينهم، فنظر إلى مضر وقال لقد اوصى لك ابوك بالقبة الحمراء وكل ما يشبهها من اموال اذا فقد اوصى لك بالخيام والدنانيروالنوق وكلها حمراء، وقال ربيعة وانا أوصى لي بالخبايا وقال أياد وأنا اوصى لي بالخادم الشمطاء وما شابه ها من اموال فقال الافعى الخادم الشمطاء هي التي يختلط بياض شعرها بسواده اذا فقد اوصى لك بالبقر والغنم والخيل التي يختلط فيها البياض بالسواد وقال لأنمارأما انت فقد أوصى لك بالدراهم والمجلس والأراضي قضي الامر.
فاعجب الاخوة بحكمته وحسن تفسيره لكل شيء في الوصية ورضوا حكمه وقال مضر ذكاء خارق وحكمة لا ينطق بها الا الشيوخ الاجلاء والملوك الحكماء، فقال الافعى لقد اعجبت بذكائهم وفراسته البعير وانتم لم تروه ، ولما هم الاخوة بالنهوض لانصراف أصر الافعى على ان يكونوا ضيوفه هذه الليله.
وبعد أن أكرمهم وقدم لهم واجبات الضيافه دخل الاخوة الاربعة غرفه ليناموا فيها ليلتهم وعندما اختل ببعضهم في الغرفة تساءل أنمار قائلا ما رايكم في ضيافه هذا الرجل وحسن استقباله لنا فقال ربيعة لم اذق قبل اليوم لحما اطيب ولا الذ طعما من هذا اللحم الذي قدم لنا لولا أنه قد ربي بلبن كلبة! وقال إياد وأنا لم اذق قبل اليوم عصير عنب اطيب ولا ألذ مذاقا من ذلك العصير الذي قدم لنا لولا انه قد نبت في صديد ميت، وقال مضر ما احسن هذا الرجل ما احسن ضيافته لولا انه ليس ابن أبيه ولا أمه الذين ينسب إليهما ويحمل اسميهما.
لكن المفاجأة عندما كان الأبناء يتحدثون سرًّا مر الافعى الجرهمي بالغرفه التي بداخلها الاخوة الاربعة في ذلك الوقت فسمع حديثهم من بدايته إلى نهايته فاستدار عائدا الى مجلسه وهو يحدث نفسه قائلا، لا يمكن ان يكون هؤلاء الاخوه بشرا لابد انهم شياطين حمر لابد ان استقصي هذه الامور الثلاثه التي ذكروها في حديثهم فان كانت حقائق استنبطها بفراس قربتهم إلي وان كانت اكاذيب اخترعوها عاقبتهم عليها .
من هو الملك؟
ذهب الافعى الجرهمي على الفور إلى إمه في غرفته بالبيت وكانت سيدة عجوزا، فسالها أن تخبره بحقيقه ما سمعه وهل هو حقا ولدها ام لا؟ فقالت الام بل هي الحقيقة يا بني، فقد كنا انا وابوك لا ننجب وخاف ابوك ان يضيع الملك والثروة بعد وفاته فاشتريناك صغيرا من تاجر رقيق وربيناك على أنك ولدنا وورينا وها انت ذا قد ورثت كل شي بعد رحيله. فقال الافعى محدثا نفسه لقد صدق هؤلاء الشياطين في الاولى، ثم استدعى الراعي الذي يرعى غنمه وسأله قائلا هل الشاه التي ذبحت للضيوف ليلة أمس رضعت حقا من لبن كلبه قال نعم يا سيدي فقد ماتت أمها عقب ولادتها مباشرة ولم يكن لدينا في القطيع شاه مرضعه غيرها فارضعتها الكلبة التي تحرس الغنم مع صغارها فتبسم الافعى وقال وقد صدقوا في الثانية فهل يصدقون في الثالثه؟ واستدعى الافعى الطباخ وسأله قائلا من أين اتيت بالعنب الذي صنعت منه العصير وقدمته للضيوف ليلة امس فقال الطاهي من العنب الذي غرسنا ليظل على قبر السيد والدك يرحمه الله، فقال الافعى وصدقوا في الثالثه.
استدعى الاخوة الأربعة إلى مجلسه وقال لهم كيف علمتم أن اللحم نبت من لبن الكلبة فقال ربيعه لما رايت القراد تراكم على عظم الشاة علمت ذلك فقال الافعى وكيف علمتم ان العنب قد نبت في المقابر فقال إياد لما شربت العصير شعرت بانقباض وضيق برغم أن من يشرب العصير يشعر بانشراح ، فقال الافعى وكيف علمتم انني لست ابن ابي وأمي فقال مضر لانني رايتك تجلس معنا ومع غيرنا من الناس وتتصرف مع الجميع تصرف البسطاء وليس الملوك برغم أنك ملك فعلمت انك من عامة الناس اصلا فضحك الافعى الجرهمي وقال انكم حقا أنتم شياطين... ولكن شياطين أذكياء! ويسعدني أن تكونوا قريبين مني لاستشاري انتهت القصة ارجو ان تكون القصة نالت اعجابكم.
ختامًا: قصة تبرز عبقرية العرب القدماء في التحليل والاستدلال، وتُذكّرنا بأن الذكاء الحقيقي هو نور يهدي إلى الحقائق حتى في الظلام، والذكاء والفراسة يمكن أن يكشفا ما خفي عن العين، والحكمة لا تقاس بالسنين، بل بالبصيرة، كما ظهر في الاخوة والأفعى الجرهمي.
#حكايات_عربية #الذكاء_والفراسة #تراث_قديم