قصة الشاب الذي خاف الله في تفاحة
في القرن الأول الهجري، في زمنٍ كانت القلوب معلقة بالله، والنفوس تتوق إلى العلم والعمل الصالح، كان هناك شابٌ تقيٌ صالح، نذر حياته لطلب العلم، وسخّر وقته للعبادة والتقوى، لكن الدنيا لم تفتح له أبوابها، فكان فقير الحال، لا يملك من متاعها شيئاً سوى إيمانه وهمّته العالية.
وذات يوم، اشتد عليه الجوع حتى لم يعد يقوى على السير، وخرج من بيته في حالٍ من الضعف والضيق، يبحث عن شيء يسد به رمقه، لكن لا مال لديه ولا طعام في بيته. ومضى يسير حتى بلغ بستاناً عظيماً، تملأه أشجار التفاح، وكانت الأشجار مثقلة بالثمار الناضجة، ومن بين تلك الأشجار، تدلى غصن تفاح من فوق السور إلى الطريق.
وقف الشاب أمام التفاحة المتدلية، ونظر إليها بعين جائعة، ثم حدثته نفسه: "خذها... لن يراك أحد، ولن ينقص البستان شيئاً من تفاحة واحدة. إنها ثمرة واحدة تسد بها جوعك وترد إليك عافيتك." فمد يده وقطفها،وأكلها، حتى سكن جوعه وارتاحت نفسه.
لكن حين رجع إلى بيته، وجد قلبه لم يرتَح، وبدأ ضميره يؤنبه، ونفسه اللوّامة تعاتبه. كيف يأكل مالاً ليس له؟ كيف يمد يده إلى رزق لم يؤذن له فيه؟ لقد أكل من بستان رجل مسلم دون إذن أو علم. ومهما كانت الحاجة، فحق الغير لا يُؤخذ دون رضا صاحبه.
لم ينم ليلته تلك، وظل يتقلّب مهموماً، حتى قرر أن يبحث عن صاحب البستان ليطلب عفوه ورضاه. سأل الناس عن مالك ذلك البستان، حتى دلّوه عليه، فمضى إليه خاشعاً مطأطئ الرأس، فلما رآه الرجل، قال له الشاب:
– يا عم، لقد أكلت بالأمس تفاحة من بستانك دون إذنك، فقد بلغ بي الجوع مبلغاً عظيماً، وإنني اليوم أطلب منك السماح والعفو، فهل تسامحني؟
نظر إليه الرجل بجمود، وقال بحزم:
– والله لا أسامحك! بل أكون خصيمك أمام الله يوم القيامة!
وقع هذا الرد على الشاب كالصاعقة، وجثا على ركبتيه يتوسل إليه، باكياً خاشعاً:
– يا عم، بالله عليك، سامحني. أنا مستعد للعمل عندك ما حييت، بلا أجر، فقط سامحني على هذه التفاحة. لا أطيق أن أقف بين يدي الله وخصمي أنت!
لكن الرجل زاد تصلباً، وتركه ومضى، والشاب يتبعه ويتوسل إليه، حتى وصل إلى بيته، فدخل وأغلق الباب، وظل الشاب واقفاً على بابه حتى صلاة العصر.
فلما خرج الرجل إلى الصلاة، وجد الشاب لا يزال واقفاً في مكانه، ودموعه قد بللت لحيته، وزادت وجهه نوراً فوق نور الطاعة، فقال له:
– ما زلت هنا؟
قال الشاب:
– نعم، والله لن أبرح حتى تعفو عني. اعرض عليّ أي شرط، وسأقبله، فقط سامحني.
سكت الرجل لحظة، ثم قال:
– حسناً، إن أردت أن أعفو عنك، فشرطي أن تتزوج ابنتي.
صُدم الشاب من هذا العرض المفاجئ، وسكت مذهولاً.
لكن الرجل أكمل قائلاً:
– أعلم يا بني أن ابنتي عمياء، صماء، بكماء، ومقعدة لا تمشي. ومنذ سنوات وأنا أبحث لها عن رجل صالح أتمنّاه زوجاً لها، رجل أمين يخاف الله، ولم أجد. لكنك حين أتيتني تستأذن في تفاحة، وتبكي لأجلها، عرفت أنك ذلك الرجل. فإن قبلت، سامحتك.
اضطرب قلب الشاب، وأخذ يفكر: "كيف أعيش مع امرأة لا ترى، لا تسمع، لا تتكلم، ولا تتحرك؟ كيف تكون شريكة حياتي؟ وأنا لا زلت في ريعان شبابي!" لكن في المقابل، أيُّ وزر أعظم من أن يقف بين يدي الله وهو يحمل في رقبته حقاً لغيره؟ وقال في نفسه: "أصبر على هذه الزوجة في الدنيا، وأربح الآخرة."
فرفع رأسه إلى الرجل وقال:
– يا عم، قبلتُ ابنتك، وأسأل الله أن يجازيني على نيتي، ويعوضني خيراً.
ابتسم الرجل وقال:
– موعدنا الخميس القادم، في بيتي، لوليمة الزواج، ولا تقلق بشأن المهر، فهو عليّ.
وجاء يوم الخميس، وجاء الشاب متثاقلاً، ليس كأي عريس. لم يكن في قلبه من الفرح شيء، بل كان يشعر كأنه ذاهب إلى قدر مجهول. طرق الباب، ففتح له والد العروس، وأدخله، ثم قال له بعد حديث قصير:
– تفضل بالدخول على زوجتك، بارك الله لكما وعليكما، وجمع بينكما في خير.
فتح له باب الغرفة، ودخل الشاب، وما إن وقعت عيناه على الفتاة حتى تجمّد في مكانه. كانت فتاة في غاية الجمال، بيضاء كالقمر، شعرها كالحرير، قامت من مكانها ومشت إليه بخطوات هادئة، وسلمت عليه بصوت ناعم قائلة:
– السلام عليك يا زوجي.
وقف مذهولاً، عاجزاً عن الكلام. هل هذه هي الفتاة التي وصفها أبوها؟ أهي رؤيا أم حقيقة؟! كيف تكون هذه الفاتنة عمياء، بكماء، صماء، مقعدة؟
ابتسمت له وقالت:
– نعم، أنا عمياء... عن النظر إلى الحرام. صماء... عن سماع الحرام. بكماء... عن قول الحرام. لا تخطو قدماي إلى معصية، ولم تمتد يدي إلى حرام.
ثم أكملت:
– أنا وحيدة أبي، وقد ربّاني على الدين والعفة، وكنت أنتظره أن يجد لي زوجاً صالحاً. فلما جئت إليه تستأذنه في تفاحة وتبكي لأجلها، قال: "من يخاف الله في تفاحة، يخاف الله في ابنتي." فهنيئاً لي بك زوجاً، وهنيئاً لك بي زوجة.
ذُهل الشاب، وسجد لله شكراً، وأحس أن الله قد رزقه من حيث لا يحتسب، فرزقه الله زوجة صالحة، تقية، جميلة، وعفيفة، وفوق ذلك، محبة لله ورسوله.
ومضت الأيام، ومرت الشهور، وفي العام التالي، رزقهما الله غلاماً مباركاً، كان نوراً في الأمة، وفخراً للإسلام، أتدرون من هذا الغلام
إنه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت، إمام وفقيه الإسلامي، وصاحب المذهب المعروف، الذي انتشر في أصقاع الأرض.
العبرة من القصة
وهكذا، كانت تفاحة واحدة... سببًا في ولادة قصة من أعظم قصص الورع والتقوى، قصة صنعت إمامًا من أئمة المسلمين، علّم الناس الفقه والدين، وصار له مذهب يُدرّس في الآفاق.
تفاحة واحدة، صنعت مجدًا... لأن قلبًا واحدًا خشي الله في السر، فرفع الله قدره في العلن، وأكرمه بزواجٍ مبارك، وذرية طيبة، واسمٍ خالد في تاريخ الأمة.
فيا من تسمع هذه القصة... لا تستهن بصغير الذنوب، ولا تستخف بقدر الطاعات... فربّ لحظة إخلاص، تصنع لك سعادة الدنيا والآخرة...
اللهم ارزقنا ورعَ هذا الشاب، ونقاء قلبه، وصِدق نيّته، وبارك لنا في أعمالنا، كما باركت في تفاحته.
وصلّ اللهم وسلّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.