وفي يومٍ من الأيام، جاء لبهلول تاجرٌ من المدينة يشكو شخصًا يُدعى الأمين، أودع عنده أمانة قبل أن يسافر لتجارته. فلما عاد بعد مدة، سأل الرجل أن يعطيه أمانته، فأنكره، ورماه بالافتراء وطرده.
وكان قد لُقّب بـالأمين لأنه كان يُظهر للناس الصلاح، ويُبدي لهم الورع والتُقى، حتى صار الناس يلقبونه بـالأمين" ويثقون فيه ثقةً عمياء. وصاروا يستودعونه أماناتهم عند السفر، ووصاياهم إذا أحس أحدهم أن أجله قد اقترب.
دنا بهلول من أُذن التاجر، وسأله:
– "هل أخبرتَ المدعو بالأمين أنك قادم إليّ لتشتكيه؟"
فرد التاجر:
– "لا، أيها القاضي."
فأمره بهلول بأن ينصرف في حاله، ويعود إليه في نفس الساعة من اليوم الموالي، ونبّهه ألا يُخبر أحدًا أنه كان عنده.
فانصرف التاجر، وهو يضرب الأخماس في الأسداس، ظنًّا منه أن بهلول لن يستطيع أن يُرجع له حقه.
أرسل بهلول أحد أعوانه إلى الأمين، وأخبره أن القاضي قد اجتمع لديه مال كثير مخصص للفقراء واليتامى، وهو لا يستطيع إدارة هذا المال وتسييره لوحده، خاصةً وأن أمور القضاء تأخذ منه كل وقته وجهده. ولأنه لا يثق في أحد من الناس من حوله، فقد قرر أن يبحث عن أمَنِ الناس في المدينة، ويوكله مسألة توزيع المال والطعام على الفقراء واليتامى.
ثم قال له:
– "ولم يجد القاضي غيرك، لأن كل الناس تتحدث عنك بالخير، ويقولون إنك تصون الأمانة."
ثم سأله المساعد:
– "هل لك من الوقت والجهد ما يكفي لتتقلد هذه المهمة الصعبة؟"
فرد عليه الأمين، وعيناه تبرقان من شدة الفرح:
– "نعم يا سيدي، أخبر سيدي بهلول أني أهب نفسي وجهدي لمثل هذه الأمور."
فأثنى عليه مساعد بهلول، وأخبره بأن يلتحق به بعد غدٍ في مجلس القضاء، وأن يُعدّ موضعًا للمال الكثير، ويحضر معه حمّالين ليساعدوه على نقل الأموال الثقيلة.
وفي اليوم الموالي، عاد التاجر عند بهلول، فقرأ عليه السلام، وانتظر ماذا سيقول.
فقال له بهلول:
– "عد إلى المدعو الأمين، واسأله أن يعطيك ما هو لك. فإن رفض، فقل له إنك ستدعو القاضي."
فذهب التاجر عند الأمين، وطلب ماله، فامتنع عن إعطائه له، وجحده.
فقال له التاجر:
– "إذن أشكوك إلى القاضي."
فلما سمع الأمين ذلك، دفع إليه ماله، واستسمحه، وطيّب خاطره.
استغرب التاجر ما وقع، وعاد مسرعًا إلى بهلول، وأخبره بالأمر، وشكره وأثنى على حكمته وحنكته.
وبعد يومين، جاء الأمين إلى مجلس القضاء، ومعه أكياس فارغة، وبضع رجال ضخام البنية، ليساعدوه في حمل المال.
فلما رآه بهلول، صاح فيه ونهره وقال:
– "بئس الرجل أنت، وبئس ما تقوم به! لقد بِعتَ دينك من أجل دنياك، وشرفك من أجل أهوائك!"
وانصرف بهلول وتركه واقفًا في مكانه.
فلما لم يجد ما يعطيه للحمّالين الذين أتوا ليساعدوه في حمل أكوام المال التي كان يُمنّي النفس بها، انقضّوا عليه، وأشبَعوه ضربًا، وتركوه مرميًا أمام مجلس القضاء.
وشاع أمره بين الناس في المدينة، وصار الجميع ينادونه بـالمخادع بدلًا من الأمين.
قصة بهلول والوالي الملثم | حين خان المستشار ثقة الحاكم!
انتشرت مواقف بهلول وأخباره في كل أنحاء المدينة، وصار حديث القاصي والداني، وصار يُضرب به المثل في الحكمة والدهاء والفطنة. وأصبح محبوبًا لدى الناس، ومقرّبًا من الوالي أكثر من ذي قبل.
وكان للوالي مستشارٌ لم يستسغ ما وصل إليه بهلول من علوّ المكانة ورفعته عند الوالي، فأمعن في التفكير كيف يُوقِع بينه وبين الوالي.
وكان مستشار الوالي يعلم أن الوالي مغرمٌ بالخيول، ويعشقها أكثر من أي شيء آخر. وكان يداوم على زيارة سوق الخيل الأسبوعي بانتظام، ليرى ويقتني ما طابت له نفسه من الخيول.
ففي إحدى الليالي، تسلل المستشار خلسة إلى إسطبل الخيول الخاص بالوالي، فأخذ أحسن جوادٍ فيه، وابتعد به خارج القصر، ثم باعه بثمن بخس لأحد تُجّار الخيل.
وفي اليوم الموالي، شاع خبر سرقة أحد خيول الوالي، فجنّ جنونه. وصادف أن ذلك اليوم كان هو يوم السوق الأسبوعي للخيول.
فأشار عليه مستشاره – السارق – أن يبحث في السوق، فلعل السارق يعرض الجواد للبيع.
فذهب الوالي متخفّيًا، وبينما هو يتجول في السوق، إذا به يتفاجأ بجواده المميز معروضًا للبيع. فتوجّه نحو التاجر، وأخبره أن الجواد يخصه وقد سُرق منه.
فأنكر التاجر، ونهره، ولم يعرف أنه الوالي.
ولأن الوالي كان عادلًا، لا يتجبّر في تنفيذ قراراته، فقد آثر الاحتكام إلى القاضي بهلول.
فما كان من البائع إلا أن وافق.
دخل الوالي والتاجر مجلس القضاء، وانتظر حتى حان دورهما. فتقدما عند القاضي بهلول، ولم يتعرف على الوالي، لأنه كان يضع لثامًا على وجهه، حتى لا يؤثر بسلطته على قرار القاضي.
فاستفسر بهلول من الرجل الملثم، فقال:
– "لقد سُرق جوادي، وقد وجدته يُباع في سوق الخيول مع هذا البائع. فأخبرته بأمر الجواد، فأنكرني، وادّعى أنه ملكه منذ مدة."
فنظر بهلول إلى التاجر، وسأله إن كان قد حدث مثل ما ذكره الرجل الملثم.
فأجابه التاجر:
– "نعم، البينة على من ادعى، ولو كان صادقًا لَأتانا ببينة تثبت صحة أقواله. وإن كانت لديه حُجّة بالفعل، فليُقدّمها على حضرتك."
فقال الوالي:
– "نعم، لدي حُجّة، وهي طابع أضعه في حدوة خيلي. وإن سمح لي القاضي، فسأصف شكل الطابع بالتدقيق."
فوصفه للقاضي، وأمر بهلول مساعديه أن يحضروا له الجواد ليفحصه.
وكان المستشار، سارق الجواد، يعلم أن خيول الوالي تحمل طابعًا في الحدوة يُميزها عن أي خيول أخرى ويُثبت أنها ملك للوالي.
فعمد المستشار إلى إزالة الحدوة من أرجل الجواد، واستبدلها بأخرى، قبل أن يبيعه للتاجر.
فلما فحصه بهلول، لم يجد الطابع الذي أخبره به الوالي، فتعجب، لأن حدسه كان يخبره بأن الرجل الملثم صادق في كلامه.
فتوجّه نحو الوالي وسأله:
– هل تستطيع تمييز جوادك من بين مجموعة من الخيول؟
فقال الوالي:
– بالطبع.
فأمر بهلول أعوانه أن يدسوا الجواد بين مجموعة من الخيول، وأمر الملثم أن يتقدم ليتفقد أيهم جواده.
فتقدّم الوالي بكل ثقة، وعرف جواده من بين كل الخيول.
فعاد بهلول وكرّر نفس الأمر مع التاجر، فاستطاع هو الآخر تمييز الجواد.
فاستدعى بهلول الجنود، وأمرهم أن يعيدوا الجواد إلى الرجل الملثم، وأن يحتفظوا بالتاجر في الزنزانة حتى يُنظر في أمره.
وفي هذه اللحظة، أماط الوالي لثامه، فعرفه بهلول وتعجب من أمره.
فأخبره الوالي سبب ذلك اللثام، وأنه لا يريد التأثير على حكم القاضي لمجرد أنه هو الوالي.
فضحك بهلول وقال له:
– لو علمت أنك الوالي، لحكمت للتاجر بالجواد دون أن أنظر في القضية من أساسها، حتى لا يقول الناس إنني رجّحت كفة الوالي على غيره.
فضحك الوالي، وأُعجب أكثر بعدالة القاضي بهلول.
وقبل أن يعود الوالي إلى قصره، سأله:
– كيف عرفت أنني صاحب الجواد، وليس التاجر، رغم أن كلينا تعرف على الجواد؟
فأجابه بهلول:
– لم يكن قصدي أن أعرف ما إذا كنتم ستتعرفون على الجواد أم لا، بل كانت غايتي شيئًا آخر.
فلما تقدمت جهة جوادك لتتأكد منه، أوْمى الجواد برأسه، ومدّه في اتجاه يدك، وكأنه يريد منك أن تمسح عليه، فعلمت أنه ارتاح لك.
ثم لما تقدم منه التاجر، نفر منه، وجحظت عيناه، وبدأ الجواد يتراجع إلى الخلف، فأدركت أنه لم يستسغه.
والخيول حساسة بطبعها مثل البشر؛ فتراها تتقرب ممن رعاها وأحسن إليها، وتنفر ممن لم تألفه وتستوحش صحبته.
أُعجب الوالي إعجابًا كبيرًا بذكاء القاضي بهلول وبراعته وحسن تدبيره.
ولكن الوالي أراد أن يعرف الشخص الذي سرق الجواد، وكان يعلم علم اليقين أنه من القصر، لأن أسواره مُحصنة، ولا يمكن لأحد تجاوزها أو فتح أبوابه إلا من الداخل.
فطلب من بهلول أن يشير عليه بطريقة يتعرف بها على الخائن المدسوس داخل القصر.
سكت بهلول قليلاً، ثم قال للوالي:
– هل يعرف أحد من القصر أنك هنا في دار القضاء؟
فقال الوالي:
– بلى، إن بعضًا ممن في القصر يعلم أني هنا.
قال بهلول:
– وبالتأكيد، فلا أحد غيرنا: أنا وأنت والتاجر، يعلم ما آلت إليه هذه القضية.
ثم أشار بهلول على الوالي أن يرجع، ويُشيع في القصر خبر أن التاجر كسب القضية، وأن يتظاهر بالحسرة على فقدان جواده، لأنه كان يلبس زينة على عنقه مرصعة بحجر الزمرد، الذي لا يُقدّر بثمن.
وطلب منه أن يعود إليه في اليوم التالي، وسيجد الفاعل بإذن الله.
ففعل الوالي ما أشار عليه بهلول، ثم عاد في اليوم التالي إلى مجلس القضاء، ففوجئ بمستشاره مقيّد اليدين، ومعزولًا.
فلم يفهم الوالي شيئًا، وطلب من بهلول أن يشرح له الأمر.
فقال له بهلول:
– البارحة، عندما غادرت إلى قصرك، عقدتُ مع التاجر اتفاقًا، مضمونه أن أُخلي سبيله مقابل أن يعود بالجواد، ومعه ثلاثة جنود، إلى بيته، وينتظر الشخص الذي باعه الجواد.
فإن حضر، يتبادل معه أطراف الحديث وكأن شيئًا لم يكن، وأمرته أن يترك الباقي علينا.
وفعلًا، لما سمع مستشارك حديثك عن الزينة التي توجد على عنق الجواد، وأنها لا تُقدّر بثمن، لم يهنأ له بال، وعزم على أن يظفر بها.
فقاده طمعه نحو التاجر، وأمسك به الجنود بالجرم المشهود، وهو يقول للتاجر:
– أعطني الزينة التي توجد على عنق الجواد الذي بِعتُك إيّاه، فهي ليست مشمولة في البيع.
فحق علينا تجريمه، لأنه اعترف بأنه هو من باع الجواد للتاجر.
اندهش الوالي، وتساءل في نفسه عن السبب الذي يدفع مستشاره لفعل ذلك.
فأجابه بهلول:
– كان هدف مستشارك أن تعثر على جوادك في السوق وتُختَبر مع البائع، فتضطر إلى الاحتكام إليّ.
فإن أنا حكمت لصالحك، أيها الوالي، فسيشعر الناس أنني أثّرت الوالي على البقية، وبذلك يكرهني الناس، فتتأثر سمعتي عندهم، فتضطر إلى عزلي عن القضاء.
وأما إن حكمتُ لصالح التاجر، فستسقط قيمتي عندك، لأنني لم أحقق العدالة في حكمي، ويقع بذلك بيننا ما كان يصبو إليه.
لكن، بفضل الله وتصويبه، نجوتُ من كيده.
أُعجب الوالي بذكاء بهلول، وأمر بأن يُشيَّد مجلس القضاء بالقرب من قصره، ليكون بهلول بذلك قاضيًا للمدينة، ومستشارًا له في نفس الوقت.
فازدهرت بعد ذلك مدينة بغداد، بفضلٍ من الله، وبفضل حسن تسيير أمورها من قبل بهلول.