في أحد الأحياء الشعبية، دخل رجل إلى محل بقالة ليسأل عن سعر الموز. رد البقال بابتسامة لطيفة: "الموز بـ 600 ليرة، والتفاح بـ 500 ليرة." كان الرجل ينوي الشراء، لكنه توقف عندما دخلت امرأة إلى المحل. كانت هذه المرأة معروفة لدى البقال، فقد كانت تزور محله بين الحين والآخر.
سألت المرأة: "كم سعر كيلو الموز؟"
رد البقال بهدوء: "الموز بـ 200 ليرة، والتفاح بـ 50 ليرة."
فرحت المرأة وقالت: "الحمد لله."
هنا، احمرت عينا الرجل غضبًا. شعر بأن البقال يغشه، فكيف ينخفض السعر بهذا الشكل للمرأة؟ أراد أن يوجه له كلامًا قاسيًا، لكن البقال أشار إليه بإشارة خفية تعني "انتظر قليلاً."
أعطى البقال المرأة كيلو موز وكيلو تفاح مقابل 250 ليرة فقط. غادرت المرأة المحل وهي تردد: "سوف يأكل عيالي، الحمد لله والشكر لله."
بعد أن خرجت المرأة، التفت البقال إلى الرجل وقال له بتواضع: "والله إني لا أغشك، ولكن هذه المرأة لديها أربعة أيتام، وهي ترفض أي مساعدة من أحد. كلما حاولت أن أساعدها، رفضت بأدب. فكرت كثيرًا في كيفية مساعدتها دون أن أجرح كرامتها، ولم أجد إلا هذه الطريقة، وهي خفض الأسعار لها. أريدها أن تشعر أنها غير محتاجة لأحد. أحب التجارة مع الله وجبر الخواطر. هذه المرأة تأتي كل أسبوع مرة، والله الذي لا إله غيره، في اليوم الذي تشتري مني، أربح أضعافًا مضاعفة وأرزق من حيث لا أدري!"
عندما سمع الرجل هذا الكلام، دمعت عيناه من شدة التأثر. اقترب من البقال وقبل رأسه احترامًا لموقفه الإنساني الرائع.
درس في الإنسانية: قضاء حوائج الناس
هذه القصة البسيطة تحمل في طياتها درسًا عميقًا عن الإنسانية والتضحية. البقال لم يساعد المرأة فقط من خلال توفير الطعام بأسعار رمزية، بل فعل ذلك بطريقة تحافظ على كرامتها. لقد فهم أن المساعدة الحقيقية هي تلك التي لا تجعل الشخص يشعر بالضعف أو الحاجة، بل تعزز ثقته بنفسه وتشعره بالاستقلالية.
في عالمنا اليوم، حيث يسود الفردية والأنانية، تذكرنا هذه القصة بأهمية التعاطف والرحمة. إن قضاء حوائج الناس ليس مجرد فعل خير، بل هو مصدر لذة وسعادة لا يعرفها إلا من جربها. كما قال البقال: "إن في قضاء حوائج الناس لذة لا يعرفها إلا من جربها."
الصدقة الخفية: أيهما أفضل، السر أم العلانية؟
بعد أن استعرضنا هذه القصة المؤثرة، يجدر بنا أن نتساءل: أيهما أفضل، صدقة السر أم صدقة العلانية؟
قال الله تعالى في كتابه الكريم: "إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (البقرة: 271).
وفي الحديث الشريف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..." وذكر منهم: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه."
هذه النصوص تدل على أن صدقة السر لها فضل كبير، فهي أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص. ومع ذلك، فإن بعض العلماء يرون أن صدقة العلانية قد تكون أفضل في حالات معينة، خاصة إذا كانت تهدف إلى تشجيع الآخرين على فعل الخير أو إظهار السنة.
رأي العلماء في الصدقة
قال العلامة ابن العربي في أحكام القرآن: "فأما صدقة النفل: فالقرآن الكريم صرح بأنها أفضل منها في الجهر بيد أن علماءنا قالوا: إن هذا على الغالب مخرجه، والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف باختلاف المعطي لها والمعطى إياها، والناس والشاهدين لها."
وأضاف الإمام ابن كثير في تفسيره: "فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية."
من خلال هذه الآراء، نستنتج أن الصدقة الخفية هي الأفضل في الغالب، خاصة إذا كان الهدف هو الإخلاص وعدم إحراج الفقير. ولكن إذا كان إظهار الصدقة يؤدي إلى مصلحة أكبر، مثل تشجيع الآخرين على التبرع أو إظهار سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تكون العلانية أفضل في هذه الحالة.
الخاتمة: الإخلاص في العطاء
قصة البقال والمرأة تذكرنا بأهمية الإخلاص في العطاء. البقال لم يساعد المرأة فقط من أجل المال أو السمعة، بل فعل ذلك بدافع إنساني بحت. لقد فهم أن المساعدة الحقيقية هي تلك التي تحافظ على كرامة الإنسان وتشعره بالاستقلالية.
في النهاية، سواء كانت الصدقة سرية أو علنية، فإن المهم هو النية الخالصة وراء الفعل. كما قال الله تعالى: "وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ." فلنحرص دائمًا على أن تكون أعمالنا خالصة لوجه الله تعالى، ولنكن سببًا في جبر خواطر الآخرين وإدخال الفرحة إلى قلوبهم.
إذا أتممت القراءة، صل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.